اللواء [عوض أحمد خليفة] ينهي النفس عن الهوى
بقلم/ محمود دليل
مواصلة لهذه السلسلة التوثيقية بعنوان [رجالات السيف والقلم في السودان] التي أكتبها عن مبدعي القوات المسلحة منذ بضع سنين أكتب اليوم عن اللواء (م) عوض أحمد خليفة.
وألا ليت شعري من أي أبواب شخصيته أدلف أولاً إلى دهاليز عالمه، من باب الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح أي الجانب العسكري أم من باب القرطاس والقلم أي الجانب الوجداني المفضي إلى دنيا الهوى والجمال والمنى والخيال والندى والظلال؟!
بعد أن لبث عاماً أو بعض عام يدرس في قسم الآداب بكلية غردون رغب عنها بغتة وهجرها عام 1949م لكي يلتحق بالكلية الحربية التي تخرج فيها عام 1951م وكان أول [الدفعة 3] التي ضمت أيضاً مبارك عثمان رحمة وصديق عمره المشير جعفر نميري وافترقا بعد التخرج حيث قام كل منهما بالتبليغ إلى وحدته الأم، الملازم ثان عوض أفندي أحمد خليفة إلى سلاح الهجانة بالأبيض والملازم ثان جعفر أفندي محمد نميري إلى فرقة العرب الغربية بالفاشر.
وسعادة اللواء عوض ليس أول مغرم بالعسكرية في محيط الأسرة الكبيرة فقد سبقه إليها ابن عمه الضابط بالمدرسة الحربية محمد عبد العظيم خليفة الذي حكم عليه بالإعدام وسط زخم حوادث ثورة عام 1924م وكان يمكن مثل –عبد الفضيل الماظ وصحبه- أن [يستقبل الموت الكريه كأنما يستسرع وكأنه يمشي بعرف للعذارى والملائكة متبع] لولا تخفيف حكم الإعدام عليه حيث لبث في السجن بضع سنين، كما أن من أقربائه أيضاً اليوزباشى بلال أفندي رزق الذي اشتهر عندما قاد من الفاشر قوات [6 جي بيادة راكبة] وتوجه على عجل لاسترداد مدينة نيالا التي سقطت في قبضة الثوار بقيادة الفكي/ عبد الله السحيني عام 1921م وكان بلال رزق قد تخرج في المدرسة الحربية عام 1907م [الدفعة2] وتعين ملازماً ثانياً إلى -10 جي أورطة- التي تمركزت حامياتها في تلودي والدلنج ودلاّمي وكادقلي وهي نفس دفعة حسن الماظ وعمر سوميت وعبد القادر مرسال جد اللواء (م) ناجي عبد النبي عبد القادر مرسال أول قائد للمتحف الحربي.
وخدم عوض بعد ذلك بسلاح الإشارة بالخرطوم بحري ولكنه عندما بلغ رتبة النقيب أفل نجمه العسكري فجأة كأسرع ما تكون الأقدار وأنطوت في قلبه الوثاب حسرة حيث أبعد من الجيش بعد اتهامه بالاشتراك في حركة كبيدة وعلي حامد عام 1959م وكلاهما من ضباط [الدفعة 1] بالرغم من أن الفريق ابراهيم عبود كان قد وجه تحذيراً إلى البكباشى علي حامد عن طريق عمه الدرديري محمد عثمان.
انتهت الحركة بإعدام قائدي المحاولة الإنقلابية البكباشى معاش يعقوب اسماعيل كبيدة من سلاح الإشارة والبكباشى علي حامد من مدرسة المشاة والصاغ عبد البديع علي كرار من الألاي المدرع والصاغ عبد الحميد عبد الماجد من حامية الخرطوم والصاغ طيار الصادق محمد الحسن من سلاح الطيران الذي هتف وهو في الطريق القصير من الزنزانة إلى حجرة المشنقة [مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها] وكان مما فاقم الموقف في حيثيات المحاكمة أن بعض ضباط الإنقلاب مثل الصادق وكبيدة وعبد البديع كانوا بالمعاش ومع ذلك ارتدوا الزي العسكري وتسللوا إلى مباني الكلية الحربية حيث قاموا بكسر مخزن السلاح.
وكانت تلك الحادثة المأساوية هي أول عملية إعدام جماعية لضباط سودانيين بعد إعدام ضباط [11 جي أورطة] و [مدرسة ضربنار] الذين أطعموا نيران بنادقهم من لحوم الجنود الإنجليز في ثورة عام 1924وهم اللازم أول عبد الفضيل الماظ عيسى وكل من الملازم ثان حسن فضل المولى وثابت عبد الرحيم والسيد فرح وعلي البنا.
ولأن الأهواء قد تلتقي من بعد يأسة وقد تطلب الحاجات وهي بعيد فقد أقدم النميري عند انتزاعه السلطة في البلاد إثر انقلاب 25 مايو 1969 أقدم على إعادة صديقه القديم عوض أحمد إلى الجيش الذي يحبه وضحى من أجله بكلية غردون التي كانت يومئذٍ هي الطريق الوردي المؤدي إلى ألق الخدمة المدنية ودخول عالم الأفندية المرموق وأنعم عليه برتبة عميد أسوة بدفعته وعهد إليه بإنشاء فرع التوجيه المعنوي وإصدار جريدة "القوات المسلحة" .
وفي عام 1972م تمت ترقيته إلى لواء حتى تقاعده في عام 1974م وهي نفس الفترة التي شغل فيها منصب نائب رئيس هيئة الأركان إمداد، وفضلاً عن إنشاء فرع التوجيه المعنوي كان قد قام أيضاً بتأسيس فرع الخدمات الاجتماعية ومؤسسة قوات الشعب المسلحة التعاونية، كما أسهم في تأسيس وتنظيم إدارة الخدمة الوطنية.
بعد التقاعد لم يقبع سعادة اللواء في بيته فيقتات على الذكريات وهو الذي يحمل ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة فرع الخرطوم فعمل برهة بالجزيرة مثلما كان قد مكث حيناً من الدهر في مصلحة التعاون حتى وصل إلى منصب مساعد المدير وعمل بوزارة المالية بدرجة نائب وزير في وظيفة المفوض العام للتنمية كما أسندت إليه إدارة مؤسسة دار الأيام كرئيس لمجلس الإدارة ورئيس هيئة التحرير حيث توفر في تلك الأيام على كتابة عموده الشهير [شيءٌ من حتى] .
وأمتع الله بعوض أحمد خليفة من أمرءٍ متعدد الإبداع متنوعه كثير الفوائد مثل بحيرة يجبى إليها مياه كل رافد إذ لم يكن رجل سيف وقلم فحسب بل كان أيضاً رجل "كفر ووتر" فقد عرفه نادي الموردة العريق حيث ترعرع مشجعاً ولاعباً وإدارياً مخضرماً وعرفته الجلسات الخاصة جداً مغنياً مجيداً حسن الصوت وضارباً ماهراً على العود وملحناً تجلت براعته في قصيدته [شتات الماضي] التي أهداها جاهزة للفنان عثمان حسين.
وقد جاء فيضان عوض الشعري حاملاً طمي التجديد للغناء المتقن الرقيق بعد أن كاد نهر الرومانسية أن يجف أو أن يصب في بحر النسيان ويتلاشى متبدداً في دلتاه بعد توقف رواد مدرسة الشفافية والخيال الخلاّق من أمثال حسين بازرعة [أنا والنجم والمسا ضمنا الوجد والحنين جف في كأسنا الرجاء وبكت فرحة السنين] وقرشي محمد حسن [أقبل الليل وصمت الليل طالا وضياء البدر في الأفق تلألأ والربا أضفت حوالينا ظلالا ثم ذاب الموج في الشط وسالا] وصلاح أحمد محمد صالح [نابك إيه في هواه غير سهاد ونواح يا فؤاد أسلاه وأهجره وإرتاح] وعبد المنعم عبد الحي [بت أشكوه لنجم في الليالي لمعا ولغيم عندما رق لحالي دمعا] والسر أحمد قدور [ذكرياتي تمر في عيوني دموع والنجوم بتنوم وفي فؤادي شموع] وطه حمدتو [يا قبلة الأنظار ضاع في الخيال مسعاي وأصبح أمل منهار] وعبد الرحمن الريح [ما أجمل الدنيا وأحلاها لو كان حبيب روحي معاها يسمع دعاها ونجواها يرحم بكاها وشكواها القي الدنيا مرامي وأسعد في حبي وغرامي] وحسين عثمان منصور [دقت الأجراس في معبد الحب ونادت، نادت الأفراح ورقصت خمرة الأحباب في الكأس وراحت تسكر الأرواح] وعلي محود التنقاري [مالو قلبي الأسروه هواهم واصطفاهم بودادهم اشتروه]! ويح قلبي عليك أيهذا التنقاري ومن فعل هذا بشاعرنا ؟! لعلهم –كما قلت أنت –[ هم أُنسي وسلوتي وهم أزاهر روضتي] .
فبأي نولٍ يا سعادتك أنت ناسج بُردة تلك الأغنيات العبقريات المبهجات؟ ففضلاً عن أغنية شتات الماضي فقد غنى لك عثمان حسين أيضاً "نورا" و "خاطرك الغالي" و "صدقيني" و "خلي قلبك معاي شوية" و "صرخة الشوق" و "ربيع الدنيا" التي غناها لأول مرة في حفل زواج المقدم (م) صلاح عبد العال مبروك بأم درمان عام 1965م كما غنى له أهزوجة "عشرة الأيام" وفيها بعض أرق ما قيل في العتاب بين الأحبة :-
ليه فجأة دون أسباب
من غير عتاب أو لوم
اخترت غيري صحاب
وأصبحت قاسي ظلوم
هان ليك فراقي خلاص
وأنا برضي حولك أحوم
كان عهدي بيك ترعاها
وأجمل صلاتنا تدوم
عمر السنين أيام
ولأن الفنان عبد الكريم الكابلي هو من سرب الحمائم التي لا تهبط وادياً أو تهاجر إلى روضة إلا إذا كان [الحب فيها سكر والماء شهد ولبن] فقد طاف بنحو بساتين عوض خليفة وقطف طائفة من أحلى أشعاره قصيداً وقافية ما برح يحرك بها حنجرته في هديل طروب مستطاب وذلك مثل أغنيات "غرامك" و " ما خلاص خليتنا" و "حنان الدنيا" أي- كيف يهون عندك خصامي- هذا وثم أغنية [يا أغلى من عيني] والتي أحسن فيها ما شاء حتى أن المرء ليجهل من أي أمره يعجب أمن حسن استهلاله إياها أم بإنهائه لها أم بتوسطه فيها حيث يقول :-
مكتوب في جبيني
غرامك وإنت عارفه
باين في كلامي
وفي عيني شايفه
قلبي دعاه حبك
كيف يقدر يخالفه
أمله تحن عليه
وتتعطف توالفه
وصدق من قال بأن المورد العذب كثير الزحام فقد ورد حوضه أيضاً الفنان تاور وعاد بأغنية "لو سألت فؤادي يوم" وابراهيم عوض الذي انصرف بأغنية [غاية الآمال] وعبد العزيز محمد داؤد فاز بقصيدة "يا أغلى الحبايب" وكان من نصيب أبو عركي "لو كانت ناكر للهوى" وظفر زيدان ابراهيم بأغنية "بالي مشغول يا حبيبي" وكثيرون غيرهم.
هذا ما كان من شأن عوض الشاعر والفارس بالأمس أما اليوم فقد لبس مسوح الرهبان واعتكف في صومعته وكف عن قول الشعر لا لأن الشعر "يكشف النوايا" كما يقول درديد بن الصمة ولكن لأنه قد [سلا وتابا لعل على الجمال له عتابا] ونهى النفس عن [النديمين أقداحا وأحداقا] وأقبل على الصلاة والصوم والعبادة والذكر وتلاوة القرآن وإمامة الناس في مسجد الأدارسة بحي الموردة في أم درمان وأقام على ذلك ولم يكن كمثل –عبد الله بن الدمينة الخثعمي- إذ قال [بكلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنا] أو كمثل عمر بن أبي ربيعة إذ يقول [وذو الشوق القديم وإن تعزى مشوق حين يلقى العاشقينا].